nasreddine_f مدير المنتدى
التخصص : العمر : 53 عدد المساهمات : 388
| موضوع: برمجة الصورة الأحد مايو 03, 2009 9:26 pm | |
| ترجمة وإعداد للنشر: عبد الصمد الكباص
عندما نتفحص عالم الصور ونخضع حركيته للملاحظة، فأول شيءنستخلصه هو كونه نشاطا اقتصاديا هائلا تتداخل فيه رهانات كبرى· فحركة الصور تتعلقبصناعة معينة وبحركة تجارية تروج أموالا هائلة وبصراعات تهم الاستحواذ على الأسواقومباشرة أنماط من الهيمنة وبسط أشكال من النفوذ· لذلك فالنقاش الخاص بمفاوضاتالمنظمة العالمية للتجارة(OMC) انصبت في جزء كبير منها حول الاعتراف للفنون البصرية بوضعية أعمال فنية، وليس بوضعية منتوجات تجارية، وهو ما يسمى بالاستثناء الثقافي· إني أتساءل هنا إن كان فعلا بالولايات المتحدة الأمريكية مهرجان فني للسينما· أي مهرجان ينبني على فكرة التمييز بين مجموعة من الأعمال على أساس قيمتها الفنية؟ فحيث تتدخل رهانات السوق ومضاربات الأموال، تستحيل المهرجانات الى تظاهراتتجارية يحكمها النفوذ المالي· إننا نتذكر جميعا تلك العبارة التي تقول إن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى، كذلك فالاقتصاد السمعي البصري هو امتداد للسياسة الدولية بوسائل أخرى· فكل أشكال الصراع التي تدور في العالم وحول العالم تصرف نفسها في عالم الصورة واقتصادها· لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية مثالا حيا في هذاالمجال· إذ انها اعتمدت في ترسيخ نفوذها الاقتصادي والسياسي على الصورة· فمنذ الحرب العالمية استعملت أمريكا السينما كاداة أساسية للسيطرة الاقتصادية· والقناعةالحاصلة لدى الأمريكيين هي حيث تمر الصور الأمريكية والسينما تمر السياراتالأمريكية والشامبوان ومختلف المنتوجات· إنها تباشر مفعولا للاختراق والمحاصرةوالصد· لذلك كانت صناعة الحلم قد حددت دائما كأداة للتحكم والهيمنة· من المؤكدأن الصورة تنتج قدرة هائلة على الاستحواذ على وعي الناس وانتباههم· وتنفذ الى زمانيتنا الخاصة· إنها اجتياح لحميميتنا الفردية· ومن ثم فالصور تمارس نوعا من التوغل في دواخلنا وتؤسس لاختيارات وتفضيلات وتحفيزات وتحيزات، وتخلق حاجيات وتحدث رغبات، لتباشر حسما بدئيا لأشكال محتدة من الصراع قد تتخذ شكلا سياسيا أواقتصاديا· إن ما أريد قوله اليوم في هذا اللقاء هو أن حرب الصور أقدم مما نتخيل· إنها أقدم حتى من الصور نفسها· فحيث تكون هناك صور تكون هناك علاقات قوى وإرادةهيمنة وأشكال من التحكم ومحاولات للرد والصد وصيغ للاستحواذ واستراتيجيات للنفوذ· فمنذ الامبراطورية الرومانية كان الصراع بين الديانة الصاعدة - المسيحية - والدينالروماني القديم يتخذ شكل حرب حول الصور، صورة من يجب أن تقدس وتمنح التبجيل اللازم وتوضع في قلب الفضاء المهيب الذي يجب أن يخضع له الجميع؟ صورة الأمبراطور المجسمة في منحوتات أم صورة المسيح؟ كان لهذه الحرب ضحاياها، وهو ما يؤكد أن حرب الصور ليستحديثة· فقد ضج العالم منذ القديم بحروب الصور التي خلفت عددا كبيرا من القتلى والمعطوبين· وهو ما يعني أنها كانت حربا مادية تدور رحاها الدامية في ساحة معركة ملموسة· إذ كانت دائما هناك حرب بين الذين يرغبون في تدمير الصور والذين يعملون على ترسيخ طقوس لها· لم تكن الصورة غريبة عن الكنيسة· فالمسيح، أي شكله المجسم المرئي، كان دائما قبلة المصلين بها، والسينما نفسها كانت خاضعة لنفوذ الكنيسة،فالعروض الأولى كانت تقدم بفضاءات الكنيسة الكاثوليكية· وهذا يدعونا إلى نفي التنافر بينهما· مثلما يدعونا كذلك الى التأكيد أن تاريخ الصورة هو تاريخ غربي· لذلك لا غرابة أن تكون وسيلة أساسية لتغريب العالم·
لقد أحدث هذا التاريخ مفعولات هامة في الوضعية الحالية التي نعيشها اليوم، إن أكبر المنشآت الوطنية فيالغرب تمت عن طريق الفيلم، إذ هناك نوع من الالتحام بين الأمة والسينما· فعن طريق المتخيل المبني من خلال التمثيل البصري تشكلت الأمة كتمثل جماعي أفرزته دواليب انتاج الصورة· لذلك وجدت الأمم المعاصرة في السينما أداة مهمة لترسيخ ذاتها فيمتخيل جماعي يحول مجموعة بشرية من كثرة من الناس إلى شعب· يمكننا أن نفكر في هذاالصدد بتجربة الولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل أمة حديثة العهد وشعبا جديداجعل من السينما فنه الأساسي رسم له صورة عن نفسه كأمة ذات أفق تاريخي· وهو نفس الدور الذي لعبته السينما بالنسبة لشعوب أخرى في فترات معاركها الوطنية كمصرالناصرية· ويمكننا العودة إلى الأفلام التي كانت تنتج في تلك الفترة، وكذلك الهندوالبرازيل·· فالصورة(L'image) إذن تساهم في بناء الهوية الجماعية وتفتح أبوابالمستقبل·· لا نستطيع اليوم التفكير في عالم الصورة دون الوقوف عند التحولات التي أحدثها التكنولوجيا الرقمية فيه· فالثورة الرقمية والتوزيع الإلكتروني للصورة غير الكثير في هذا العالم، ويمكننا إجمال هذه التحولات فيما يلي: 1-فردنة الصورة: إنها نهاية القاعة السينمائية التي تتقلص الى شاشة صغيرة· فإذا كانت السينما فنا خلق شعبيا أي ظهر وسط الجماهير وفي تفاعل معها ويعرض أمام أعينها، حيث كانت القاعة السينمائية بمثابة تجمع بشري في الظلام يشاهد بشكل جماعي شيئا مضيئا على شاشة كبيرة· وإذا كنا نستجمع حماسنا و نتنقل إلى قاعة السينما· فالتلفزيون هوالذي يتنقل عندنا· ويتجول في بيوتنا الخاصة من الصالون الى البهو إلى المطبخ، وهذانوع من تخصيص الصورة بعيدا عن الطابع الجماعي للقاعة السينمائية، ووضعها مسيجة داخلالحياة الخاصة للفرد· 2-كانت الصورة في الماضي شيئا نادرا وملكية ثمينة سواء كانت لوحة أو منحوتا أو حتى صورة فوتوغرافية· اليوم مع الثورة الرقمية تغير هذاالوضع، وبمقابل هذه الندرة التي منحت للصورة قيمة كبرى أغرق عالم الصور في وفرةكبيرة قلبت وضعه· ففي سنة 2003 لوحدها بلغ عدد الصور التي تم التقاطها في العالم 120 مليار صورة· وهذا الرقم مرشح للارتفاع سنة 2007 إلى 630 مليار صورة· إنكم تلاحظون أننا كنا أصبحنا نتعامل على النمط الياباني· فالعالم هو مشروع لقطة في آلة تصويرنا الرقمية التي تمنحنا إمكانيات هائلة لتخزين الصور واللعب في إخراجها· النتيجة أن الصورة في ظل هذه الوفرة الهائلة فقدت قيمتها وأضحت شيئا عاديا بل حتى مبتذلا· نقارن ذلك بالمجهود الكبير الذي كان على الانسان أن يبذله للحصول على صورة واحدة فقط في الماضي· اليوم الأمور مختلفة جدا· فآلات التصوير الرقمية تمكننا من الحصول بسهولة على آلاف الصور وحذفها بنفس السهولة، لذلك فقد تحولت الصورة إلى مجالمزقته هذه المفارقة، فهي في نفس الوقت عمل فني وشيء عادي مهدد بالاتبذال· 3-البرمجة الإلكترونية هي التي تتحكم فنيا في الانتاج السمعي البصري· هذا شيء أقرب إلى البديهيات التي لا داعي لتكرارها· لكن ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن هذه البرمجة هي التي أصبحت تنظم المتخيل· فهناك برمجة واسعة تجثت الثقافات وتفتت التجمعات· وذلك مرتبط بالعولمة التي هي ظاهرة مزدوجة· فمن ناحية أولى هي كوكبة اقتصادية وتقنية للأرض التي أصبحت مشمولة بمنطق واحد يخترق الحدود ويعبرها ويتجاوز الاختيارات المحلية· ومن ناحية ثانية تترجم بلقنة سياسية وثقافية للعالم· إننا نعيش مرحلة غير مسبوقة للمطالبة بالاختلاف وتقطيع العالم· والصور تمثل تصريفا للمطالبة بالتفرد· ولهذا السبب نلاحظ أن المطالبة بالانتماء والعودة للتقاليد تصاحب التحديث· هناك مثل يقول: عندما تغرقون شعبا في كوكاكولا تغرقونه كذلك في ايات الله (يضحك) نسبة طبعاإلى آيات الله الخميني· المسيحية كدين كوني مختلف عن اليهودية كدين عرقي ارتكزت في انتشار متخيلها على الصورة· فقد نشأ تاريخها داخل الكنيسة· لقد قلت سابقا أن تاريخ الصورة تاريخ غربي، ومن ثم فهي اداة جوهرية لتغريب العالم، وهذا التغريب يعني امتداد المتخيل الغربي خارج حدوده الثقافية التقليدية· بالنسبة للإسلام كان الارتباط موثق بالكاليغرافيا· وبمقابل ذلك هناك تحريم لأي تمثيل بصري للذات الإلهية أو لذات الرسول محمد· وذلك عكس التمثيل البصري للمسيح الذي ظل محتضنا من قبل الكنيسة· هذا الاختلاف له تداعياته التاريخية فيما يخص موضوعنا·
فالأكيد أن هناك تطورا غربيا على مستوى الصورة، لكنني أخشى أن يكون تقدما يترجم بتأخر مقبل، فربماأن نقطة قوة الغرب ستصبح هي نقطة ضعفه· سأفصح قليلا عما أفكر فيه عندما أقول هذاالكلام· إن الكون الرقمي لم يعد يمثل العالم، لكنه يخلقه ويستبقه· والصور لم تعدمرهونة بمرجعها في الواقع، بل هي التي أصبحت مرجعا· وأكثر من ذلك، فما ليس له صورةليس له واقع· وما لا يمر في التلفزيون، أي ما لا يظهر في شاشته لا وجود له· هناكإبدال لمبدأ الواقع بمبدأ اللذة· إن الأمر يتعلق بالسقوط في نرجسية تهدد العالمالغربي بفقدان العلاقة بالواقع· إذ ما يجب تذكره في هذا الصدد أن هناك مرض الصورةأي ما لا يفكر فيه· ففي الصورة التي تمر أمامنا (التلفزيون··) ليس هناك قياسللزمان، يوجد فقط تأسيس للحاضر·إن الغرب المتخم اليوم بصوره، قد يصبح ضحيةلقوته هذه· لكن إذا ما فكرنا في مناطق أخرى كالعالم الإسلامي الذي أن ينبني علىمبدأ مقابل - غير إيقوني - فسنتأكد أن هناك إمكانات أخرى تنفتح أمام العالم · وهذايعني أن لعبة القوة لم تتوقف وحرب الصور لم تنته· شكرا لكم - نص المداخلة التي ألقاها الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه صباح السبت 12 نونبر 2005 بمراكش،بمناسبة الاعلان عن المدرسة العليا للفنون البصرية بمراكش·
|
|